طوق الحمامة لابن حزم ... قراءة تحليلية

منذ فجر التاريخ ظل الحب مفهوماً مطاطياً يصعب حد جوانبه، ووضع تعريف مشترك له، فهو اللا ملموس، اللانهائي، الباطني، الزائر، المتطاير المتناثر، اللا شكل، الذي يعجز الإنسان عن وضع تعريف له.

وكان أول من تناول هذا المفهوم الشعراء، فحاولوا وصفه بالكلمات والعبارات دون وضع أي تصور أو تحليل مقنع له، ثم اقتحم الفلاسفة المجال وحاولوا تعريف هذا المفهوم، واختلفت الرؤى في هذا الباب، ولم يصل أي منهم للإحاطة بمختلف تفاصيله بما فيه الكفاية، وقد كانت أهم المحاولات بلسان عربي بفضل الشيخ ابن حزم الأندلسي الذي أصَّـلَ بنظرة أخرى لهذا المفهوم مستفيداً من الأقوال والأطروحات السابقة، مستثمراً ما توصل إليه سلف الفلاسفة والمفكرين، وكانت خلاصة هذه التجربة عبارة عن كتاب طوق الحمامة الذي اجتمع الشرق والغرب على مضمونه، وترجم للغات عدة، واعتمد عليه لفهم جانب من النفس البشرية، فهل نجح ابن حزم في التأصيل لمفهوم الحب؟ وما أهم الأفكار التي طرحها في هذا الموضوع؟ وما هي مكامن القوة في كتاب طوق الحمامة في الألفة والألاف؟

لن يبالغ المرء المطلع على محتوى كتاب طوق الحمامة لو قال أن هذا الكتاب هو أفضل من تحدث عن المفهوم الهلامي الذي يطلق عليه الحب، وأول الأسئلة التي قد تتبادر إلى ذهن الشخص ما علاقة "طوق الحمام" بالحب؟ ولماذا اختار هذا العنوان الغريب؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال دعونا نتطرق بدايةً لنقطة في غاية الأهمية، لقد خط العالم والمفكر والفقيه ابن حزم عبارات هذا الكتاب وهو على بساط قرطبة بالأندلس، ومما لا شك فيه أنه قد تأثر بالرخاء الذي عاش فيه آنذاك. فحينما يتوفر السلم والأمان، ويتوفر الرخاء المادي الاقتصادي ويتم قبول الآخر والانفتاح بحب على باقي الأجناس وتقبل ـــ بل والانصهار ـــ مع العنصر الأجنبي (الاسباني)، لا يمكن سوى انتظار نتائج مبهرة على المستوى الإبداعي والفني والثقافي، وهذا هو أول عنصر ساعد الشيخ ابن حزم.

يتضح جداً بين أسطر الكتاب ملامح التسامح والانفتاح والتأثر وقبول الآخر، بل والطبيعة الخضراء والمناخ المعتدل أيضاً، ويمكن الجزم أن هذا الكتاب لو كتب في وسط جاف ومنغلق لما خرج بهذا الشكل، ولكان مفعماً بروح التعصب والقبلية. وما يؤكد ذلك هو الكتابات التي جاءت لاحقاً لترد على هذا العمل متهمةً إياه بنشر الفساد والتشجيع على الفجور، والتي نبتت أساسا في مناطق جافة يسود فيها الخوف والدم والرعب.

اختار المفكر الإسلامي ابن حزم "طوق الحمام" كعنوان للكتاب، وهو عنوان لافت ينم عن ذكاء يشجع القارئ للغوص في سطور الكتاب.

إن الحمام هو طائر مميز كتميز الحب، جميل كجماله، مسالم كطبيعة المحبوب، ويأبى إلا الحرية كالمشاعر تماماً، والحمام لطالما كان وسيلة للتراسل، و التراسل ركن أساسي في علاقة الحب، بل أن للحمامة مكانة دينية وبعد فلسفي كالحب تماماً.

في القصة الدينية كانت الحمامة حاضرة لدى النبي نوح وهو على السفينة، وكانت الوسيلة التي اعتمد عليها ليجد مكاناً يرسو فيه، وبالتالي فلها قدسية كما للحب قدسيته، وقد قال ابن حزم في كتابه:

تخيرها نوح فما خاب ظنه ... لديها وجاءت نحوه بالبشائر

ولأن ابن حزم اطلع على علوم السابقين وأقوال الفلاسفة الكبار، فإنه لم يفته ربط الحمامة مع رمزيتها عند الرومان والتي ارتبطت لديهم بإلهة الحب فينوس.

أما البعد الثالث لاختيار هذا العنوان فقد اعتبر المفكر ابن حزم الحمامة رمزاً لكل شيء جميل والحب هو لب كل شيء جميل، دون نسيان صوت الحمام (هديل الحمام) والذي قد يكون تعبيراً عن تنهدات محبوب غارق في عشقه، ولكل هذه الاعتبارات فقد وفِّق الكاتب في اختيار هذا العنوان الذي يفتح الشهية للسفر على بساط أوراق الكتاب.

إن الأديب ابن حزم عبر كتابه طوق الحمامة لم ينظر فقط في الحب، ولم يقدم طرحاً مبنياً على نظريات معلقة في السماء، كما أنه لم يلبس جلباب الفقيه ليحاكم أخلاقية الحب، ولم يجلس مجلس الشاعر ليتغزل، بل أخذ بيد القارئ نحو تجربة روحية خالصة.

ففي هذا الكتاب يمكن لأي إنسان أن يجد نفسه في أحد سطوره، إنه رحلة كاملة في مسار الحب، حيث بدأها بالنظرة وختمها بالاستقرار، وهو أسمى مراتب الحب. وإذ أن الكتاب رحلة متكاملة الأركان فذلك يرجع إلى أنه أعطى لكل مرحلة حيزها الكافي، وعززها بأدلة عقلية مفعمة بالروح، وبتجارب لأشخاص على أرض الواقع، وذلك كله في طبق لغوي رصين يمتع العين والأذن، وباستشهادات شعرية توصل المعنى بلمسة جمالية فريدة. والقارئ أثناء تقليبه لصفحات الكتاب لا يغيب عنه الانطباع بأنه أمام رجل حكيم وعالم ملم بأقوال السابقين من فقهاء وعلماء وشعراء وفلاسفة.

قسم الكاتب هذا الكتاب إلى فصول يعد كل فصل بمثابة خطوة أو مرحلة في سلسلة الحب، فعرف من منظوره مفهوم الحب، والذي عجز فلاسفة اليونان وغيرهم وضع تعريف دقيق له، ففصله عن الجنس وجعله متفرداً بالمشاعر الصادقة والمحبة العذرية، وإن دخل فيه عنصر الجنس دنَّسه وصار مجرد شهوة.

وإذا ابتغينا التخصيص أجاز لنا القول أن الكتاب مقسم تحديداً إلى ثلاثين باباً، عشرة منها كانت في أصول الحب، واثنا عشرة منها جاءت في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة، أما الستة المتبقية فقد كانت في الآفات الداخلة على الحب، ووضع باباً في قبح المعصية، ثم ختم بفضل التعفف.

ففي باب علامات الحب نجح ابن حزم في وصف الحالة النفسية للواقع في براثن الحب وقدم لنا صوراً عاطفية جميلة مدعومة بقصص واقعية وبأشعار جميلة، حيث اعتبر إدمان ملاحظة وملاحقة شخص علامةً على الحب، وكثرة السعي نحوه علامة، وتكرار كلامه علامة، ونفس الشيء لتصديقه ولو كذب والدفاع عنه والفرح عند ذكر اسمه، والسهر تفكيراً فيه، وما يرافق ذلك من سعادة وراحة وحزن وألم أيضاً.

وهكذا انتقل للحديث عن رؤية المحبوب في المنام وجعل ذلك درجة من أعلى درجات الحب، وعنون هذا الباب بعنوان "من أحب في النوم"، ثم أخذ بيدنا نحو حب فيه ما فيه من الغرابة، وهو الحب بالوصف، حيث يخلق الحبيب صورة لمحبوبه ويتعلق بها ويهيم بها، والنساء هن الأكثر ميلاً نحو هذا الحب، وعيبه أن الولهان قد يصدم بصورة معاكسة للمحبوب من تلك التي رسمها في مخياله. وفي باب آخر تحدث ابن حزم عن الحب من النظرة الأولى، واعتبره حباً غير رصين البناء، فكما يبدأ بسرعة يمكن أن ينتهي بسرعة أيضاً، وعلى نقيضه هناك الحب مع المطاولة، وفيه يتم بناء العلاقة بتريث واتزان، وهو الحب الذي يرقى لدرجة العشق.

تطرق العالم ابن حزم في كتابه لمختلف وسائل التعبير عن الحب، فبدأه بالتعريض بالقول، من خلال التعبير بالقصائد والعبارات الجميلة، ثم الإشارة بالعين، ثم المراسلة، وفي المراسلة تحدَّثَ عن الرسول، ووجوب اختياره بعناية ليكون أميناً في النقل، محافظاً على السر، غير ملفت للأنظار، وهكذا انتقل للحديث عن طي السر، وجعْل الحب بعيداً عن أعين المتطفلين، وهو الأسلم للعلاقة، وفي المقابل تحدث عن إذاعة واشهار العلاقة، والتي تكون أساساً إما من باب التباهي أو من باب الرغبة في الانتقام من المحبوب والإضرار به، وهو عمل لا أخلاقي.

تعمق العالم ابن حزم في الجانب النفسي للعشاق، فتحدث عن الطاعة والخضوع، حيث اعتبر الحب الوسيلة القادرة على ضمان انصياع الحبيب لمحبوبه، والاستسلام أمامه بل الاستعداد لتغيير الطباع لنيل رضاه، ويقابله الاستغلال، أي استغلال خضوع الحبيب لقضاء المصالح الشخصية، وهو عمل دنيء.

محظوظ جداً من بلغ مرتبة الوصال في الحب، حيث يعتبرها ابن حزم أسمى المراتب في هذا الأمر، وهي أن يجتمع الحبيب مع محبوبه دون خشية من أحد، ويعيشا في صفاء ووئام، هذه المرتبة يأتي في نقيضها الهجر، وهو الفراق، وتحديدا ابتعاد أحد الطرفين وترك الآخر، وهو الفاتح لأبواب الجحيم للمهجور! أما إذا كان الفراق بسبب الموت فذلك أمر جلل حيث يصعب أو يستحيل النسيان بعده، لأن المحبوب المتوفى سيظل عالقاً في الذاكرة والقلب ولا يتزحزح، كالواقف على سكين، لا ينفع معه التقدم للأمام ولا العودة للوراء ولا حتى التوقف وعدم التحرك.

والفراق يحمل معه السهر والبكاء والحزن والسقم والضعف، وهو ما فصل فيه في ما عَنونَه بـ "باب الضنى"، ثم "باب القنوع"، و"باب السلو".

وبعد أن مر ابن حزم من مرحلة النظرة إلى المراسلة إلى اللقاء إلى الخلاف إلى الهجر والمرض، ختم الكتاب بتوجيه توصيات ونصائح لكل حبيب ومحبوب، فجعل البابين الأخيرين بابَي الأخلاق بامتياز، حيث ذم فيهما ارتكاب أي معصية تحت اسم الحب، وحث فيهما على التعفف وتغليب العقل على الشهوة.

إن أهمية كتاب طوق الحمامة تتجاوز خط الحديث عن الحب، بل هي دراسة شاملة تستند للواقع والتجارب والدين والعلم لتحيط بمفهوم الحب بعيداً عن أي انحيازات دينية أو أيديولوجية أو عرقية أو خلافه. فهو الذي لن تجد معه غلو الشعراء ولا انغلاق الفقهاء، لن ترى فيه جمود الفلاسفة ولا مثالية الأدباء، كما أن فيه احترام للمرأة بنفس قدر احترام الرجل، على خلاف ما اعتادت عليه المجتمعات التي تميل نحو جهة على حساب أخرى.

والحديث عن كتاب طوق الحمامة لا يكفيه مقال، حيث أن بمجرد التطرق لكل باب من أبواب الكتاب كفيل بخلق مجلد كامل.


في الختام، يمكن القول أن طوق الحمامة هو تجربة روحية إنسانية واقعية مبنية على أسس متينة خطت بأنامل رجل ساعده وسطه المعيشي واطلاعه الواسع الوفير على تقديم مادة علمية مميزة... فهل يجب إذن على المسلمين والناطقين باللغة العربية الاعتزاز بهذا العمل المميز الذي يوثق لفترة كان لهم فيها ازدهار على كافة المستويات؟ أم وجب عليهم الحزن والبكاء حسرةً على أنّهم أُمّــةٌ جزءٌ من ماضيها أفضل وأجمل من حاضرها؟