شهرزاد الاستثناء: المرأة حين تلقي تعويذة البقاء
في عالم القصص والخرافات لا شهرة فاقت شهرة ألف ليلة وليلة التي انطبعت في الذاكرة الجمعية مرجعاً ثقافياً وحضارياً وإنسانياً، وقد ترجع أسباب تلك الشهرة المستحقة إلى مقومات عديدة ومختلفة، لعل أبرزها تلك الدعامة السردية التي ارتكزت عليها بنية الخطاب ونعني بذلك "الراوي"، فالراوي في كتاب ألف ليلة وليلة ليس مجرد وسيط بين أفكار ومرجعيات الكاتب والمتلقي، كما أنه ليس سارداً تقليدياً محكوماً بقيود المكان والزمان والواقع، بل هو باختصار " الراوي الاستثنائي" الذي مهد لجعل المؤلف استثناءً في حد ذاته بجملة كالسحر تلقى تعويذة في بداية كل ليلة لتخرج من الواقع إلى الاستثناء في رحلة سردية متقنة النسج تنتهي بالمستمع / القارئ بالعودة إلى الواقع، فيطلب مرغماً الرجوع إلى الدهشة واللامعقول والمجهول، ولا غير الراوي من يملك المعرفة بشعاب وخفايا هذه الرحلة فيعيده أو يتركه على قلق بانتظار المزيد كالمهيوم كلما ازداد شرباً ازداد ظمأً.
فهل نحن بصدد الحديث عن مجرد راوٍ للأحداث متمكن من صنعته يحذق فن القص ويتقن أساليب التشويق ويمزج بذكاء بين الواقع والخيال فيشد الانتباه وينجح في الإبهار؟ أم أن الأمر مختلف وأكثر عمقاً مما يبدو عليه؟
أخذت "شهرزاد" في ألف ليلة وليلة دور الراوي للأحداث، ولكن هذا الدور لم يكن صنيع الدلال الأنثوي أو رغبة في جلب انتباه رجل ذا سلطة. كما أنه ليس متأتياً من فراغ سردي لا نعرف سببه. هذا الدور مُجتثّ من أعماق القهر الأنثوي المدوي، فهي لم تتجند لهذا الدور إلا في لحظة الفناء الوشيكة، أي لحظة الإبادة العمياء لبني جنسها. إبادة يبررها حكم ذكوري على جنس بأكمله، لعل صدع الرجولة الذي اجترحته الخيانة يلتئم أو يشفى بدماء المقتولات.
إذن فشهرزاد لم تكن في حالة السرد الحر والمحلق في فضاء الإبداع المفتوح، بل كانت امرأة مثالية في مواجهة رجل يعرج برجولته المطعونة محاولاً النّجاة بالقتل. والمثالية هنا قد صيغت بإتقان فهي ابنة وزير حسناء عالمة وملمة وتوجت تلك الخصال بالشجاعة والتضحية، فتقدمت قرباناً لتنقذ ما تبقى من بني جنسها ودخلت دون أسلحة ( في ظاهر الأمر) إلى عالم ذلك الرجل المتأزم والملغوم بالدمار والجراح النفسية النازفة والمدججة بأوامر القتل النافذة.
الراوية الآن تتخذ مكاناً رمزياً في الخط السردي المسترسل الذي كان من الممكن أن يتواصل لعشرات آلاف الليالي طالما أنها تملك ألا تتوقف.
وحتى عندما كانت شهرزاد تمهد للخطاب، فتخبر شهريار بمختصر القصة، ثم تسلم مقاليد السرد لشخصية من شخصيات الحكاية، حتى يتولى المهمة عنها، لم تكن تتخلى عن قوتها أو مركزيتها بل كانت تلبس وجه الحياة -وهو أحد وجوهها الكونية- التي تمنحك الحرية حتى تستشعر الأجنحة وتهم بالتحليق فعلاً، وتعيدك إليها متى أرادت لتعيش " الحياة" كما رُسمت لك. تعود فتمسك بزمام الرواية، وبذلك ترد الحديث للقصة الأصلية، وتنهي حركة السرد في القصة الفرعية.
وهذا الأسلوب سمة فنية بارزة في كتاب ألف ليلة وليلة تجعل البناء السردي أكثر تشويقاً، كما تفتح أفقاً لتوليد قصص أخرى.
هذه الانسيابيّة تستدعي الحضور الأنثوي الناعم والقادر على جمع التفاصيل وتذكر الحيثيات والربط بينها، وعدم التكلف في نسج خيوطها وفي عرضها، كما تستدعي نفساً غير معقدة ولا حاملة لعبء الانتقام ولا تقيّدها أغلال الدونيّة والفوقية، ووحدها شهرزاد / المرأة القادرة على صهر هذه القدرات في مواجهة شهريار/ الرجل الذي جمع كل الأدوار لنفسه فكان ضحية المرأة في البداية، والقاضي الذي حكم على المرأة، والجلاد الذي نفذ الحكم عليها، ليعود فيصير الضحية التي تحتاج من يعالج جراحها برفق الأنثى وحنوها. ضحية ما تزال دماء المجرمات البريئات تخضّب روحه.
هذه المفارقات تجعل من شهرزاد الراوية لا بديل لها في ألف ليلة وليلة، ليس لأنها شهرزاد بل لأنها المرأة بالمفهوم الإنساني. المرأة التي حملت – تكهّنا- خطيئة النزول إلى الأرض بغواية آدم وحثه على الأكل من الثمرة المحرمة، تلك التهمة التفسيرية الذكورية، كما تحمل ثقل الجسد الخصب المحمل بالتكون والولادة. فهاهي تدخل مخاض الولادة كل ليلة، لعل غريزة الحياة لديها تتغلب على الموت الجاثم على شفتي شهريار. فإذا صاح الديك ولم تُقتل، كانت الولادة إلى حين. وقد استحقت الحياة لأنها واجهت الظلم بالشجاعة و الضعف، بالقوة وبالعلم. شأن المرأة ذلك الكائن القوي في ضعفه. القوي في ألمه، كقوتها وقت المخاض في اللحظة الوجودية التي تهب فيها الحياة.
تلك القوّة الخبيئة التي جمّعتها شهرزاد الرمز. فلم تحضر جسداً ولا غواية ولا كائناً لا حول له يسلّط عليه الظلم فيستسلم للموت دون أن يصدر صوتاً أو يترك اسماً أو أثراً. حضرت شهرزاد عارفة بخبايا الأمور كأنها الحياة، مطّلعة على العوالم الخفيّة، تنقل أحاديث المردة والجِن والعفاريت والإنس والسّحرة ، وتنتقل بين الأمكنة والأزمنة كأنّ كلامها قُدَّ من قدرة عجيبة لا من حروف . إنها القدرة على احتواء قاتلها وعلى علاجه وعلى زرع الرّبيع في قلب الشّتاء إذ جعلت من الوحش رجلاً محباً ولم تستسلم أو تُهزم. في لعبة السّرد أيضا لم تضع في غياهب الهوامش والقصص الفرعية وتداخل الخرافات والتّعريج على التفاصيل، كانت تعرف هدفها وتأنت حتّى وصلت إليه بأبهى ما يكون الوصول.كما تتأنى الأنثى في حملها شهورا حتّى تضعه وقد اكتمل خلقه.
هي ليست حرب جنسين أحدهما تجبّر وأذى، ونقلت اللغة أطوار تلك الحرب بزخرفة سرديّة، بل هي اختزال للحياة.حيث تتصارع الأمزجة والجواهر والمصائر، وتلتقي الشخصيات وتفترق ويطل اللاممكن والمجهول من نوافذ الممكن والمعلوم وحيث نعلم ولا نعلم فيرفعنا التّخمين والخيال إلى مراتب الإبداع.
لذلك فالكتب النّادرة مثل ألف ليلة وليلة هي كتب تختزل في أبهى وجوهها " الحياة"، ولهذا السّبب عينه لم تغب شهرزاد عن الذاكرة الجماعية ولن تغيب لأنها ترمز إلى الحياة حين تدهشنا وحين تتركنا في مهب الانتظار. وببساطة، لا لغة يمكن أن تؤثر في النّفس وتترك وقعاً غريباً كتلك التي صاغت قول الراوية الاستثنائية "شهرزاد" حين تلقي تعويذة البقاء بصوتها الكوني الذي لا يفنى: " بلغني أيّها الملك السّعيد... أنّ ..." ونتشبّث نحن ب "أنّ" لأنّها باب يفتح على الإبداع حتّى لا يحبسنا الواقع.