القراءة: أزمة الفيزيقي المحدود

يبدو أنّ أول موقف تراجيدي عايشه الإنسان هو محدودية وجوده، وعدم امتداده عبر الزمان، إذ لا بدّ من أن تأتي لحظة زمنية يغادر فيها هذا السياق الفيزيقي المتفاعل معه إلى سياق آخر مجهول؛ على الرّغم من جهد الديانات والفلسفات المختلفة في توضيحه وتقريبه.

سيعالج الإنسان هذه المحدودية العُمرية التراجيدية بوسائل شتى، من أبرزها الكتابة، فهو, إن كان ولا بدّ من أن يغادر هذه الفيزيقية, فسيترك خلفه حروفه الخاصة, لتمتد عبر الأزمنة والأمكنة اللاحقة.

إنّ هذه الآثار الكتابية اللغوية التي وضعتها ذوات شاعرة بمحدودية وجودها وتراجيديته لا تكون لها أية أهمية إذا لم توازيها عملية أخرى، ألا وهي العملية القرائية، فالقراءة في وجه من وجوهها تحقيق رغبة الآخر الفاني في الشعور بامتداده المستمر واللانهائي.

لا يمكننا أن ننفي أنّنا نقرأ لغايات نفعية براغماتية مباشرة، ولكننا نقرأ, أيضاً, لأنّ حياة واحدة لا تكفي، فنحن نريد أن نتقمص تجارب الآخرين, من خلال نتاجاتهم الكتابية, ونضيفها إلى تجاربنا الخاصة، فتغنيها وتعمّقها، لنشعر للحظة أنّنا عشنا أكثر من تجربة حياتية، بل كلّما اغتنت عمليتنا القرائية واستمرت ستغتني هذه التجربة الحياتية المُضاف إليها تجارب الآخرين.

وقد أفرزت هذه العملية الكتابية القرائية نموذجاً معمارياً, ألا وهو المكتبات: تلك السياقات المكانية التي تحتفظ بمجمل النتاج الإنساني الكتابي, والمكتبات ليست حديثة في حضارتنا البشرية، إذ كانت موجودة منذ العصور السحيقة، فنجدها عند الفراعنة والبابليين، إذ وعى الإنسان منذ تفتح وعيه ضرورة حفظ هذه النتاجات الحاملة مختلف التجارب الإنسانية.

وبالتالي لا يمكننا الفصل بين عناصر الثالوث المترابط، أي الكتابة، والقراءة، والمكتبات، بل إنّ تموضعنا في وسط هذا الثالوث هو تموضع جمالي، إذ ترسل الكتب بآلية رمزية خصائصها الجمالية الحاملة لها، فنتلقفها، ونتفاعل معها، معيدينها إليها بصورة جمالية مضافة من خلال عمليتنا القرائية التأويليلة، هذه القراءة التي إن استمرت ستجعلنا ندخل في علاقة جمالية أخرى مع المكان الحاوي هذه الكتب، أي المكتبة، فلا يغدو ذهابنا إليها ذهاباً آلياً بقدر ما هو ذهاب للقاء جمالي مع تجربة ذات, شعرت بمحدوديتها وأرادت المكوث أكثر في الزمان.