قبل الغياب؛ التجلي الأدبي للثاناتوس
محاولة في فهم الانتحار:
تتنازع الإنسان قوتان متمايزتان؛ الإيروس والثاناتوس، الإيروس هي قوة الحياة، ودافع الإنسان المركزي للتكاثر والاستمرار في السياق الوجودي، والثاناتوس هي قوة الموت، المضادة لقوة الإيروس، والعاملة في الاتجاه المناقض، وتتمحور حول سعي الذات الواعية إلى تدمير نفسها بيولوجياً، وهذا التدمير البيولوجي له درجات، لعلّ أقصاها الانتحار؛ إذ يمكن أن نذهب إلى أنّ الانتحار هو عنف توجهه الذات نحو نفسها، ناجم عن سيطرة قوة الثاناتوس عليها، وفقدانها القدرة على خلق معنى جديد للاستمرار في الوجود, فالشخصية المُنتحرة وصلت إلى المرحلة المعنوية الصفرية في السياق الوجودي، فاتجهت نحو نفي هذا السياق القائم على اللامعنى، ليغدو الموت هو المعنى النهائي المتبقي لها، أو هو استراحة من لا معنى الوجود.
في الرسالة الأخيرة:
ما يلفت الانتباه أنّ نسبة كبيرة من المنتحرين يتركون مادةً لغويةً مدونةً قبل انتحارهم، ومجموع هذا النتاج المدون يمكن أن نطلق عليه "أدب الانتحار"، وهو مختلف عن ذلك النمط من الأدب الذي يتناول، سردياً، تيمة الانتحار في سياقها الكلّي والمتنوع، من خلال شخصيات انتحارية محورية، فأدب الانتحار، الذي نقصده هنا، هو الكلمة الأخيرة في مواجهة الوجود، أو هو التلفظ الأخير الذي يقوم به المُنتحر، قبل تمركزه النهائي حول ذاته وإنهائه وجوده الفيزيقي.
بنية أدب الانتحار:
لكلّ نمط أدبي بنية خاصة به تمايزه من الأنماط الأدبية ذات البُنى المغايرة، وإذا تعمّقنا في أدب الانتحار سنجد عناصر مركزية تتضافر بين بعضها البعض لتمنحه خصوصيته البنيوية، وهذه العناصر هي: العنصر الرسائلي، وعنصر التكثيف، والعنصر الفلسفي الوجودي، والعنصر التفسيري.
فأدب الانتحار هو أدب سردي، رسائلي، ذو بنية لفظية مكثفة، وغير استرسالية، يتناول، غالباً، قضية وجودية مركزية، تؤرق كاتب الرسالة، ويحاول من خلال هذه القضية تقديم تيمة تفسيرية تبريرية لفعل الانتحار الذي سيقوم به.
هذه العناصر هي ما يشكل بنية أدب الانتحار، قد تُضاف إليها، أحياناً، عناصر بنيوية هامشية، نابعة من تجربة الذات الكاتبة الرسالة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النمط الأدبي يبقى في حالة عدم تحقق نوعي إلى أن يتلوه تحقيق فعل خارجي ذاتي وهو الانتحار، فتنتقل هذه البنية اللفظية من السياق الترسلي الأدبي العمومي إلى سياق أدب الانتحار.
في التلقي:
إنّ أدب الانتحار قد يكون موجهاً نحو متلقٍ عمومي غير محدد أو نحو متلقٍ خصوصي محدد، يوجه إليه المُنتحر رسالته الأخيرة، إلا أنّه ينزاح عن هذا التلقي المحدد لينتشر في سياق التلقي العمومي، فأدب الانتحار هو من الأنماط الأدبية سريعة الانتشار على صعيد التلقي، وهذه القيمة الانتشارية الواسعة تأتي في جوهرها من مفصلية الفعل التالي لرسالة الانتحار.
فهذا الأدب مرتبط, جوهرياً, بنقطة إشكالية ومجهولة, وهي النهاية الفيزيقية المتعمدة للإنسان, فيتسرب جزء من فضولية اكتشاف الاضمحلال النهائي للوجود الإنساني إلى البنية الرسائلية التي يدونها المُنتحر، مانحة إياها ملمحاً جاذباً للآخر، يدفعه إلى الاطلاع عليها, والاتحاد بحساسيتها, وتقمص اللحظة الموازية لكتابتها الواقعية, محاولاً التقاط أكبر قدر من التفاصيل السابقة للغياب الفيزيقي لذات قررت قطع الصلة بالوجود القائم, للانتقال إلى عتبة مشبعة بمعالم المجهول والغياب.
”إلى أمي، وأخواتي، ورفاقي، هذه ليست طريقة جيدة، ولا أرشحها لأي إنسان، ولكن ليس هناك طريق آخر”
فلاديمير مايكوفيسكي
"لم يعد لدي الشغف بعد الآن، لذا تذكر، من الأفضل أن تحترق بدلاً من أن تتلاشى".
كورت كوبين
"أنا الآن لا شيء، تفصلني خطوة عن اللاشيء، أو فلنقل قفزة، غريب أمر الموت ما أبخس ثمنه، دينار ونصف الدينار ثمن الحبل، وبعض السجائر، غريب أمر الحقيقة ما أبخسها ثمنها لكننا لا نرى، نملأ أبصارنا وبصائرنا دومًا بالأوهام، حتى تصير الحقيقة تفاصيل لا نراها, نحن لا نرى غير ما نريد رؤيته، لا نرى من الأخضر غير يابسه حتّى تختلط علينا الألوان ومفاهيمها، شأننا شأن أحبّتي، الذين رغم تواضعي يظنّون أنّني عيسى، فإذا ما صدّقوا ما ادّعوا، اختلط عليهم الأمر، فراحوا لا يفرقون بين القلب والمعصم، وصارت أوتادهم تنهمل على صدري كسهام الوغى.
غريب أمرهم، بل غريب أمركم جميعًا اذ تظنُّون بموتي أنّني أناني، لكنني في الحقيقة أبعد ما يمكن عن الأنانية، دققوا في التفاصيل، لو كنت كما تدّعون لكنت التهمت ما استطعت من أدوية أمي المريضة ورحلت، لكنني أعلم على يقين أنّ عائلتي المسكينة ستنصرف إلى مراسم دفني وقبول التعازي، وسينسون بالتأكيد أن يشتروا لها دواء بدل الذي دفن في معدتي، لكنني لم أفعل، لو كنت بالأنانية التي تدّعون، لكنت رميت بنفسي أمام سيارة على عجل، أو من فوق بناية عالية، لكن، حرصا مني أن لا تتلف أعضائي، التي أوصي بالتبرع بما صلح منها، لم أفعل.
سادتي، أحبّتي، عائلتي المضيّقة والموسّعة، أوصيكم بأنفسكم خيراً، وبأولادكم حبّا,أحبّوهم لأنفسهم، لا تحبّوهم لتواصل أنفسكم فيهم، اختاروا لهم من الأسماء أعظمها وأرقاها، وكونوا شديدي الحرص في ذلك, فالمرء سادتي رهين لاسمه، شأني، أمضيت عقودي الثلاثة بين نضال وضلالة وغربة, علّموا أطفالكم أنّ الحبّ ليس بحرام، وأنّ الفنّ ليس بميوعة، لا تستثمروا من أجلهم، بل استثمروا فيهم، علموهم حب الموسيقى والكتب.
السّاعة الآن الرابعة بعد الظهر، من السابع والعشرون من مارس سبعة عشر وألفين، أفارقكم عن سن تناهز أسبوعان وأربع أشهر واثنان وثلاثون سنة. أحبكم جميعاً دون استثناء، وأخص بالذكر هيرا، تلك العشرينية إيناس، تلك البريئة التي شيطنتها الحياة وحبي. آسف من الجميع".
نضال غريبي