مدرسة السخرية عند الجاحظ
يجلس عمرو بن محبوب وهو طفل في سوق البصرة يبيع الخبز و السمك، ثم يدرك بثاقب نظره أنه خلق لشيء آخر، غير جلبة السوق وزحامها، ونداء الباعة الذين يعرضون صنوفًا شتى يبخسها بعض الذين يأتون للشراء أو المقايضة، وحين يعلو نهيق الحمير و تضجر الخيل والبغال، في نهار السوق الطويل، بعد انصراف المصلين من جامع البصرة بعد أداء صلاة العصر، تداعب رأس الصبي فكرة أن العلم أكثر طمأنينة للنفس من السوق وتقلباتها، فينفذ الفكرة، ودون تأخير بدأ يأخذ العلم عن أعلامه، فأخذ علم اللغة العربية وآدابها عن الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري، ودرس النحو على الأخفش، وتبحر في علم الكلام على يد إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري.
وارتاد مربد البصرة ليأخذ اللغة مشافهة من الأعراب، ويناقش حنين بن إسحاق وسلمويه فيتعرَّف على الثقافة اليونانية، ويقرأ ابن المقفع فيتصل بالثقافة الفارسية، ثم لا يكتفي بكل ذلك، بل يستأجر دكاكين الوارقين ويبيت فيها ليقرأ كل ما فيها من كتب مؤلفة ومترجمة، فيجمع بذلك كل الثقافات السائدة في عصره؛ من عربية وفارسية ويونانية وهندية.
هذه صورة قلمية لأحد الكتاب الخالدين، فهل الخلود بسبب عشقه للتراث الانساني، الارتواء منه ثم إبلاغه فيما يشبه السحر الحلال، أم هو بحسب ما قال المؤرخ ابن خلدون عند الكلام على علم الأدب: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة كتب هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، كتاب الكامل للمبرد، كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منه.
فكان لهذا التقدم والنبوغ في اللغة و الأخبار و أيام العرب وحياة الحيوان و ذكر المحاسن والاضداد، والاحتجاج للفكرة على وجه حسن، ثم عليها ونقضها على وجه أكمل، ما جعل ذكراه تسري في كتب اللاحقين وتستهويهم أخباره؟
أوليست خفة الروح وروح الدعابة والسخرية أقرب إلى أريج الخلود، ألم تخلد لنا تصويراً فنياً و كأننا في يوم الناس هذا نعيش معه أجواء الحاضرة العباسية وحلقات القص والتذكير ومناظرات علم الكلام، ثم ألم يجعل كتاب البخلاء أهل مدينة مرو معاصرين، حكاياتهم تصلح لكل الأزمنة و المسارح. وما دام للسخرية هذا التأثير، فلنحاول اكتناهها فهي كما يقال أسمى درجات النقد الاجتماعي و السياسي.
ولكن أليست هي وريثة الهجاء والنقائض و الذم، أليست هي الغمز واللمز والتنابز بالألقاب على وجه معين و مستنكر دينًا و أخلاقًا. لعل في السؤالين ما يدفعنا إلى البحث عن آثار أبي عثمان وهل كان المؤسس لمدرسة السخرية في النثر الفني العربي.
لا شك أن السخرية قد تأتي بصورة عفوية تارة ، وقد تأتي لأغراض النقد والتنقيص لأمر معين، ولا يمكن أن نتجاهل دورها في التحليل و التصوير، وكشف ما غيب في ثنايا التاريخ وعوامل النسيان، لقد كتب المدائني عن الأَكلة، و أبوعبيدة عن لصوص العرب، غير أن الجاحظ كان أول مؤلِّف في تاريخ الأدب يخص كتبًا كاملة في السخرية تحليلاً و دراسة لمجتمعه، كما فعل في كتابه البخلاء، و رسالته التربيع و التدوير.
لقد تربي في وسط عائلي يعتني بالفكاهة فجده أسود يقال له فزارة. و كان فكهاً مرحاً؛ و كذلك كانت أم الجاحظ فيها ميل واضح إلى السخرية، فقد روُيَ أن الجاحظ في حداثته كان مشتغلاً بالعلم، فطلب من أمه الطعام يومًا، فجائته بطبق فيه كراريس، فقال لها: ما هذا؟ قالت: هذا الذي تجيء به. فالميل إلى المرح والفكاهة و السخرية لدى الجاحظ يرجع في الجانب منه إلى الوراثة.
ولكن في الوسط المحيط كالسوق وكتاب القرية ما يستملح من الطرف والنوادر، وفي الناس وأشكالها ما يثير الاستغراب، ويشحذ متوقدي الأذهان إلى القياس على ما هو مرغوب وجميل، فتبدو العيوب كما لو كانت رسمًا كاريكاتوريًا بحاجة إلى الإصلاح والرصد، الذي لن يتم بخفة الروح والدعابة واقتناص الأساليب البلاغية و البيانية، مما يخفف عن الناس والقراء سآمة الواقع وملله، ولعل في هذا سر انتقال الجاحظ من الجد إلى اللعب والعكس، إنه يتخللنا بالنكت مخافة السآمة.
تأتي السخرية تلبية لحاجة أصيلة بل فطرية لدى الناس، فمن شيوخ البصرة الذين لا يضيعون فرصة للسخرية أبو عبيدة بن معمر المثني، و إبراهيم بن سيار النظام؛ الذي كان مشهوراً بالدعابة و السخرية، وقد لازمه الجاحظ ملازمة شديدة، ظهرت آثارها في كتباته. و منهم - أيضاً - ثمامة الأشرس، و قد نقل عنه تلميذه الجاحظ كثيراً من أدبه، كما كان أستاذاً له في المجون و الفكاهة النادرة اللاذعة. و في بلاط المتوكل اتصل الجاحظ برجال تخصصوا في الهزل و الفكاهة و السخرية، منهم أبا العنبر الهاشمي، و أبا العنبس، والجماز. فصار الجاحظ واسع الاطلاع، موفور الثقافة، قال عنه أبو هفان: “لم أر قط، و لا سمعت، من أحب الكتب و العلوم، أكثر من الجاحظ. و كان علمه لم يقف عند حد”.
و خلف مظاهر الإضحاك والضحك الذي لم يكن الجاحظ غافلاً عن أهميتها في اتزان النفس البشرية، كانت رسائله تصل قارئيه وسامعيه، أليست السخرية "بكاء بعويل الضحك، أو ضحكًا بعويل البكاء" جمالها الأدبي و الفني مقترن بغايتها الاجتماعية ومن غير هذا تكون عبثًا مبتذلاً.
لقد كان الجاحظ دقيقاً في تصويره، ساخراً مع شخصياته، داعياً إلى الضحك و المزاح. قال في مقدمة كتاب البخلاء ”و لك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء تبين حجة طريفة، أو تعرف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة، و أنت في ضحك منه إذا شئت، و في لهو إذا قللت الجهد.“ و قد دافع الجاحظ عن الضحك، و بين آثاره و فوائده للنفس و الجسم.
يجعل كتاب البخلاء من الشطار و المغنين و من المشعوذين و الحمقى وبائعي القيان مادة شيقة للتداول اللغوي و الاجتماعي، مسجلاً التفاوت الطبقي بين علية القوم و أسفل الهرم بشكل مثير للإشفاق على الضعف البشري حتى في ظل اقتصاد الوفرة والثراء في مدينة السلام أو في البصرة.
سخر الجاحظ من أهل المرو لما عُرف عنهم بالبخل الشديد، فيقول ”ويروى أنه قيل لثمامة أي الناس أبخل؟ فقال لم أر الديك في بلدة قط إلا و هو لاقط، يأخذ الحبة بمنقاره، ثم يلفظها قدام الدجاجة، إلا ديكة مرو، فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحبوب. قال فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد، وفي جواهر الماء، فمن ثم عم جميع حيواناتهم. ويذكر قضاء الليل مع محفوظ النقاش، والمسجديين ومعاذة العنبرية.
أما كتاب التربيع و التدوير فيتطلب بحسب البعض التخلص من الافتتان بأبي عمرو ففيه بعض الثغرات التي تمس جوهر السخرية مثل :
- العبارات الهجائية الصريحة التي بثها هنا وهناك، في حين أنه كان من الأجدر أن يلجأ إلى التورية والتعمية والإيلام غير المباشر شأن السخرية ونهجها.
- كثرة ذكر أسماء المشهورين من الرجال.
- الصفات الكثيرة.
- إطالة الجملة أحيانًا.
- المبالغة في السخرية مبالغة غير مقبولة أو مستملحة.
- المبالغة في القياس الفلسفي الذي تمجّه السخرية التي تميل إلى الإيجاز.
- الاستطراد كنهجه في كتبه العلمية الأخرى، إذ هو يصلـح في مجالها، ولا يصلح في رسالة قائمة على الهزل.
و أيا كانت الاعتبارات التي ننظر من خلالها للجاحظ، ومن دون مكابرة فإننا نلمس آثاره عند اللاحقين، كتأثر ابن قتيبة به رغم اختلاف المرجعيات و اتهامه له بالانتحال ووضع الأحاديث، ويشيد المسعودي بجودة ما يكتب، أما لطائف الجاحظ وروحه فهي حاضرة على الدوام في كتابات أبي حيان التوحيدي.
هناك العديد من الدراسات التي تناولت الموضوع باستفاضة وأحيانًا في سياق مقارن مع أدب السخرية في العالم و أقامت صلات بينه وبين كبار الأدباء العرب المعاصرين.